على هامش الرئاسيات اللبنانية
السياسي اللبناني جــان عـبـيـد
من الضفاف العاطفية إلى المسارات الواقعية
بقلم : سـليم نقولا محسـن
________________________________________
- في مرحلة الستينات تلك كان يمكن اعتبار جان عبيد مميزا بين الشخصيات المتواجدة على الساحة اللبنانية، وعازفا سياسيا ماهرا للحن فريد، فلقد كان مقبولا وذا علاقات سياسية واسعة ذات حساسية لبنانية وعربية ودولية.
- [وقد أدرك] أن التماس التاريخي مع العروبة بمفهومها العادل والإطلالة عليها يتجلى قدر المارونية في لبنان، وأن ما يحيط بها من حدود ليس عرضا، فهي في موضع التقاطع والتشابك "التاريخي الجغرافي والثقافي".
- كان السيد (جان عبيد) كشخصية متميزة بأبعادها: في ذهنية المتنورين اللبنانيين والعرب- وهم من صفوة الشباب – مرشحا رئاسيا مأمولا في عتمة الواقع اللبناني والعربي، وهم لا يرغبون باستبعادهم عن المشاركة المواطنية في مجرى الأحداث بعد الآن.
- ومن منطلق حساسية المولد والوطن وآفاق الانتماء المتداخل عبر الحدود بين العروبة وخوف الطائفة، كان موقفه موقف الرافض لحرب العشرين عاما على أرض لبنان والوسيط الفاعل لإحلال سلام متوازن.
- كانت نخب طلاب الجامعات اللبنانية وثانوياتها في مرحلة الستينات -لبنانيون وعرب- تتابع آراء السيد "جان عبيد" في منظوره للخارطة السياسية وتحرك القوى حول مفهومه للمعادلة الدقيقة بأبعادها السياسة التي يختزنها عقله في مختلف الأمور: 1- حول الوجه النقي للبنان ومصداقية رسالة المارونية التاريخية الواعية فيه. 2- وحول طبيعة أنشطة الجماعات السياسية وأهدافها وتعدد مناهلها الإيديولوجية (عروبية- يسارية) وطروحات التحرر السياسي والاجتماعي وحراكها. 3- وموقفه التقويمي لخطأ تحرك الدعوات الانعزالية وبرامج أحزابها لمجانبتها منطوق الواقع الصائر والعصر. 4- وعن الآثار السلبية في انتماء الشباب إلى العقائد المنقولة المضغوطة أو العروبية المتطرفة والمخاوف من انجرارهم إلى الالتزام بها. 5- وحول لبنان الآتي الدولة والوطن والمواطن والدستور، وصيغة معادلة التقدم مع الحداثة والحرية والعدل الاجتماعي والتاريخ.
- البطريرك الماروني لن يكون مارونيا حقا (وهذه مقولة ثابتة) إن لم يستطع أن يكون بطريركا لكل المسيحيين العرب.
- إن لبنان قد نهض من رقدته وانعتق من قيده، وأزاح عن وجهه الحِجاب، وها هو ينطلق بأعين يقظة فاحصة، يخطو بثبات على الأرض ووجهه إلى الأمام، يرنو بفرح إلى صحيح الطريق الصاعد إلى أرز الرب على القِمم.
________________________________________
* دأبت الصحافة اللبنانية على تناول موضوع الرئاسيات اللبنانية في مواسم الاستحقاقات، فتتناول مسيرة الحياة الاجتماعية والسياسية للشخصيات المارونية اللبنانية، بما يتناسب والتوجهات، وبما أن أكثر أصحاب القلم من أهل الصحافة متورطون في العمل لصالح الغير، فغالبا ما كانوا يوائمون بين دوافعهم الحقدية، أكانت شخصية أو اجتماعية بجذور انتماءاتها الطائفية السياسية العشائرية أو الاقتصادية والموضوع التحريضي المطلوب منهم بحق ذلك المرشح أو ذاك، ومنهم السيد وضاح شرارة كنموذج (في مقالته لصحيفة الحياة العدد/12843/ لتاريخ الأحد 3 أيار 1998 في ملحق تيارات)، وكان من الطبيعي أن يلجأ هؤلاء على تقليب الأمور على غير حقيقتها، وأن ينسجوا من مفرداتها التاريخية المنتقاة، ما يرضي من يعملون لهم، وبالطبع ليسوا أصحاب المصلحة الحقيقية من شعب لبنان، وذلك بأن يقلبوا مسار حياة حقيقية إلى عاطفية تلطفاً منهم. لذا نرى من باب الكياسة: تقويم الأمور الملفقة وما اعوج منها إلى استقامتها، كما عرفناها عيانياً، بأن نعيد نقل القصة العاطفية كما حُـكِـيـَت تخيلاً متعمداً وتشويهاً لمسيرة حياة جان عبيد السياسية إلى مساراتها الواقعية.
* لعل القارئ ينتظر عـبـر كـَمّ من المقالات تشبه لعبة الكلمات، أو برقيات غامضة محذوف أوائلها وتاريخها /على عادة السحرة من الصحفيين/ فكرة ما مخبأة خلف أيديولوجية مبتكرة، تسترشد التاريخ في موضوع السياسة والرئاسات اللبنانية المتعاقبة وظروفها أو ما يستوجب الإيضاح، إلا أنه لن يعثر إلا على موضوع الضحك وفن فحص الإضحاك عن البطولات الهراوية (إشارة إلى عهد فخامة الرئيس المغفور له الياس الهراوي)، ولا بأس من إلقاء حواديت (حسب المفردة المصرية) في ساح الفضفضة لا رابط بينها ولا معنى مع إضافة حواشي لكلمات مثل (جان عبيد الرئيس العتيد ، صانع الرئاسات، السيد الحريري، رقم السيارة الثلاثي للروزرويس)، ثم ملخصا لسيرة مشوهة رواها السيد جان عبيد في معرض إجابته على سؤال عن موضوع عائلي قديم، يتعلق بزواج أخيه إيلي بشقيقة السيد فاروق المقدم السني، زواجه من إبنة قائد الجيش العماد البستاني مع التأكيد - موقع اتفاقية القاهرة- ولا يعرف في شجاعة توقيعها من قبل العماد مع الفلسطينيين زمنها بضمانة زعامة عبد الناصر العربية ما يُعيب، وقد وأدت خلافات كارثية بعد أن تخلت الزعامات المزمنة عن المسئولية، وهي من أوقد أسبابها، أو ما يُعيب إبنته لبنى السيدة الفاضلة المعطاءة كما عُرفـَت.
* ولن يستطيع القارئ الجزم بأسباب إيراد المفردات والعبارات السابقة وجديتها في سياق بحث أو مقالات قد يظن أصحابها بأنهم موضوعيون، " إلا إن حُسبت رموزا وأحاجي أو نوعا من رحلات تطهير الذات"، وربما تجاوز القارئ ما هو ظاهر وتماسك للانتقال من الألغاز إلى المعنى الباطن مسترشدا بنقاط: فإن عليه تقليب الألفاظ وإعادة الصياغة، لكن هذا يقوده إلى الاستغراب من التعرض لما هو متعارف عليه، فهنالك مقولات بديهية تعمّقت في وجدان تاريخ النسيج الإنساني ولها انعكاسات شرطية، لذا يبدو من الصعوبة استساغة عبارات مشوشة المفهوم تورد عن الفلاحة، الشجاعة، الأصول والفروع عن المعلوم بين الخاصة والمجهول، ومراتب الاستماع والحديث الخ بغرض ذمّ (جان عبيد)، لكن يبدو أنه ليس من الخطأ الإيضاح:
* لا شك بأنها حالة فصام غريب موضوعه الواقع والحلم، حيث يصبح المتخيل حقيقة، وهي حالة فرضت على العديد من الشعب اللبناني منذ آماد طويلة، وكنا نصادف أفرادها في الشوارع والبيوت من جراء سلسلة القهر الاجتماعي والفكري والاقتصادي من أطراف متعددة، يدعي المرء فيها بما ليس فيه، ويلبس ما ليس له، رغبة في الهروب من واقع العري والجوع إلى واقع الطربوش (البكوية) إلى قصة أخرى مُتخيلة عن الذات أو الغير، تتجلى بعض جوانبها في عصبية الانسلاخ والالتصاق بالآخرين بقصد أن تتسامى الذات المقهورة، بما يصاحب ذلك من عدوان، وذلك بنقل لبوس واقع الذات المرفوض إلى الغير وممارسة العنف عليه تطهراً، وتأسيسا فإن استمرار حالة العُصاب هذه ببقاء الأسباب، يفقد المصاب صلته بالواقع، ويعيش بالحلم ليس كحالم وإنما في عالم حقيقي، وهذا ما يفسر أحيانا الانفعال الهستيري لأفراد وجماعات في ظرف ما اتجاه الآخر، ولربما هذا ما يعانيه أصحاب مثل هذه المقالات، إذ ليس في منظورهم قصة واقعية بسيطة مثالية لرجل عادي، إنما هي عاطفية ومركبة منقولة من الحلم، ففي واقع الحياة حسب المُخيلة المُتمسكة بالوحي كل القصص /عاطفية مركبة/ تدمج الواقع بالمتخيل.
* والبعض قد يرغب لسبب ما نقل قصة عاطفية من الحلم للعيش فيها على أرض الواقع - وهذه حالة معروفة- لكنها لا تدم طويلا، إلا أن هؤلاء يصادفون آخرون يصنعون ويعيشون وقائع لحياة حقيقية مرصودة على امتداد الزمان والمكان، فيمتنعون عن تصديقها كما يرفضون أصحابها، وهذا ما يلحظ في مسار تصور أصحاب هذه الأقلام ومنهم السيد شرارة، فيكتبون بهذيان القول بدافع من عقل مريض دَمَج الواقع بالمتخيل وحلق حتى كاد أن يجعلنا نحن ننقاد إلى ما يرويه وتصديقه.
* ولا يعرف في هذا المجال إن كانت عقلية شيخ القبيلة وإن لبست لبوسا غربيا "برنيطة" متأصلة طاغية لدى هؤلاء أو طارئة في مجهود مسحهم المضني لنقاء السلالات الرئاسية، أم أنهم ولجوا حضرة العارفين لأهل الطرق الصوفية، واتشحوا بنورانية عُرفانية معصومة، تستلهم المشايخ ووارثي الصلاح من أصحاب المراتب والأوسمة والمال الوفير، الواعظون المباركون الغائبون الحاضرون القائمون والمقيمون في ظلام المناسك بين الجبال والمسالك الوعرة في معرفة الحق ووجه الحق وجلاء الغيب من حاضر غارب والخفي من ظاهر ماثل، فالكل لم يعرف هؤلاء الوجهاء المسترئسون - بما فيهم القاصدون لهم من أصحاب القلم - إلا مطأطئون للرؤوس يجيبون بنعم، وضيعون أمام المقامات مستذئبون بين رعاياهم، بارعون في اللعب، يبطنون الشرور، ويستقوون على بعضهم بالغريب، ويبقى القول والصدى، أما الحقيقة فغائبة عن عيون الرعايا، فهؤلاء قد نمّطوا الجبل السابق إلى أن تحول شبابه إلى مرتزقة شديدة الانضباط، تنصاع، لا دور لهم خارج إشارتهم ولا تطلع حياتي، إلا أن هذا الجيل قد مات والأبناء عاقون.
* إن أحداث الستينات قد أنجبتها جداليات واهتداءات الأعوام السابقة، وفيها قد بدأت تتكشف أمام أعين الصبية تلاميذ الخمسينات في كل من سوريا ولبنان المهام الحقيقية للبعثات التبشيرية التدريسية، وكان ثمن التعبير المحظور عن الأفكار الوليدة آنذاك تأييدا لمطالب وطنية أو احتجاجا على مناهج تربوية: الطرد من المدرسة، وهكذا دفع الثمن "جان عبيد" الطالب بفصله من مدرسة الفرير وآخرون أيضا من جيله أصابهم ما أصابه في مدارسهم من قبل اليسوعيين والعازاريين والأمريكيين وغيرهم، وكانت مدارس هؤلاء ضمانة الأهل في مستقبل مرموق للأبناء غير أن هؤلاء قد رأوا في الصبية المعنيين المشاغبين الشذوذ وجذور التمرد على التعاليم، التي أفرزت هي نفسها فيما بعد الاتجاه المعاكس الشرس، ومن ثم كان الالتحاق بالمدرسة الرسمية عملية تسوية "فكرية واجتماعية ووطنية" ذات مصداقية مارسها في تلك الفترة بنوع من الالتزام - أي الانتساب لشعب الوطن - العديد من التلاميذ في لبنان وبلاد العرب، فهل في هذا التصرف ما يدعو إلى استغراب أخواننا أصحاب القلم..؟ ومنذ مطالعها الساخنة كان للسيد جان عبيد الماروني رغم حداثته السياسية في تلك الفترة مواقف من المارونية المنغلقة " ذات العصبية المتطرفة" التي سميت "انعزالية" لانعزالها في مناطقها وانعزالها في توجهاتها عن باقي شعب لبنان، وربما كانت بدايات مواقفه مع نشأته الأولى الذي ساهم في إعدادها والده بدوي المعلم الذي توفي مبكرا، ووالدته الجليلة، وملتقى دارته المضيافة في بلدته علما الشمالية وموقعها حيث تلتقي فيها وقربها وتتقاطع التيارات والطوائف، ولا تدخل في عتمة الكهف المحرم والرعب المصنع الخائف من المجهول..؟
* وكان هدم قبر العائلة الذي يضم رفات الوالد بدوي والجدود ونبشه ذا حساسية ومساسا بقضية مقدسة بعد سكوته عن تخريب دارة العائلة في علما من قبل أطراف، نهجت الطائفية إبان الأحداث العاصفة في الحرب اللبنانية الأخيرة، لحمله عبر ردود الفعل والانفعال إلى تغيير موقفه السياسي المتوازن والإخلال بالمعادلة التي صاغها بروح من المسئولية الوطنية المترفعة، إذ كان يرى فيه بعض ممن يدعون احتكار الموقف الوطني عائقا سياسيا "لكونه مارونيا" والأطراف الأخرى التي انتهجت الطائفية، كانت ترى في المعادلة الوطنية التي يتبعها بصيغتها الرافضة لمنزلق مورنة الحرب ولبنان عملا مشاكسا يمنعها من احتكار المسيحيين والموارنة وإسقاطا لمشروعها، وربما قد يلاحظ أصحاب القلم هؤلاء بأن جريمة حرث القبر تشبه في مدلولها إنكار الأب المربي -تجهيله- والمساس بالمقدس، فهل كان أصحاب القلم يعون معنى الحدث أم أن ما أشاروا إليه مجرد زلة قلم لا أكثر..؟
* فالعائلية في التقليد التاريخي تقتضي احتواء المثل اللبنانية والثبات المتعاقب عليها "فنحن نعرف جان عبيد" إبناً لعائلة لبنانية معروفة فيها كل أبعاد القيم المارونية من الإيمان بالموروث إلى التزامها بالترابط المجتمعي وسلوك الطريق القويم أو في مواقفها العملية اتجاه الناس والأرض "الوطن"، لذا فإن ما أورد من شك حول ترحال الجدود والأصول إلى لبنان، ووصفها بالقصة العاطفية والانتماء للمجهول، يدفعنا بالمقابل إلى الاتهام ونقل من ادعى إلى حالة الفصام..؟ إذ لا يخفى أصلُ حجرٍ في جبل لبنان، فكيف إن تـَعـَلـَّق هذا بتاريخ الرجـال، وكي لا ننزلق إلى التهويم الدعائي بالربط بين الظاهر والمضمون، فإن مفهوم العائلة بمعنى المكانة في تاريخ لبنان وغيره من البلدان، إنما اندرج دائما في الغيرية الإنسانية والعطاء المجاني للغير في إطار القيم، ولم يُقس أبدا لا بمساحة الأرض المملوكة وفخامة قصر الحجر أو حسن المنظر والهندام وهذه كلها مقتنيات بما فيها الفرس الزرقاء "الرولزرويس"؟ وعلى كل حال لا يبدو الأمر عظيم الأهمية، حيث نرى العائلات في هذا الزمان تفرّخ هنا وهناك في صحف الفضائح والمجلات وإعلانات الشركات والسكوت المتفق عليه ووضع اليد وآخرون منهم كما علمنا مشافهة من الآباء ومن تناقل الأخبار كانوا يمتهنون قطع الطرق والتشليح والإغارة على الآمنين في القرى وسلب الضعفاء، لا كما يزعم الآن أبناؤهم وأحفادهم، بأنهم مقارعين للظلم مناضلين، وفي المقابل تنقرض سلالات بفعل الاضطهاد والنسيان، وعائلات تتسربل بالخضوع والخنوع من المقصودين "المرتكز عليهم التوصيف" في طروحات النسب والأصل العريق ببعد السنوات منذ اقتسام لبنان، ممن تسلقوا أو فرضوا، يلتحقون أو يأتمرون بالمغمورين من الأغراب والمبعوثين الصغار بمستوى ثلاثة نجوم، استجدوا منهم أسماء ومراتب ومن ثم التمعوا بقبضات السيوف وسروج الخيول؟ وهنا لا أفاخر ولا أدعي نسبا فقد، قد يعود إلى زمن الأسر المُصَّنفة لمراتب الأنساب في جبل لبنان منذ فتوحات محمد علي لبلاد الشام وقبله تربع البشير على كرسيه في القصر المنيف لأعطي الحكمة وأجري التقييم بما لا ينفع، غير أن ما نراه بمنظار العصر: أن المسألة قد اعتراها الذبول ومن المحتمل أن يرغب البعض في الترويج لها الآن، إنما هي تتعلق أصلا بالظروف والفرص في لعبة الزمان والمكان، وهذا قد مضى كما يقول المثل "لكل زمان دولة ورجال" وكما نعلم فليس الأصل السلالي يحسب كما يفترضه الضالعون في تركيب الرؤوس على أجساد العباد وقطع الرقاب واختلاق الألقاب والتاريخ لمن لا ماضي له ؟
* علما بأننا عرفنا عائلة عبيد عرضا لا قصدا، ولنا في لبنان أقرباء وأنسباء، إذن لسنا بغرباء، وأتيح لنا الالتقاء بالسيد جان وإخوته إيلي وميلان وفؤاد وبوالدته الفاضلة وأيضا أقاربه وأنسبائه ومن عرفهم في بيروت والسهل والجبل، فما سمعناه منذ ذلك الزمن عنهم وما عرفناه عيانيا كان حمدا وشكرا وثناء في مفهوم القيم، ولم يتبدلوا، أكان ذلك في دارتهم المتواضعة في بيروت الصنائع حين كانوا طلاب علم، أم في البريستول أيام الستينات، أو جونية أو غيرها من المناطق فيما بعد، وقد يكون من الأفضل أن يفطن المدًّعون، وأن لا يغيب عن أذهان المأخوذين بضجيج الأصوات إلى أن الولاء الذي كان للولاة عبر الحدود في زمن الظلم والاضطهاد من الأستانة إلى القاهرة مرورا بمن تصدروا دار الولاية في كل من دمشق وصيدا ثم باريس في زمن مضى، كان هو المقياس وإليه الفضل وعاملا يكاد أن يكون وحيدا في ارتفاع عائلات واندثار عائلات، بينما كانت العائلة المثلى هي المستهدفة بالإفقار والتشريد والاضطهاد.
* في مرحلة الستينات تلك كان يمكن اعتبار جان عبيد مميزا بين الشخصيات المتواجدة على الساحة اللبنانية، وعازفا سياسيا ماهرا للحن فريد، فلقد كان مقبولا وذا علاقات سياسية واسعة ذات حساسية لبنانية وعربية ودولية، وكان مركز التقاطع وقوة الربط لأطراف القوى اللاعبة المؤثرة على الساحة اللبنانية، فبالإضافة إلى توازناته المدروسة بين الكتل السياسية، كان له امتدادات في الأوساط الطلابية الأكثر حراكا، والعناصر الأخرى الناشطة، كان الماروني الأقرب إلى الاتجاه العروبي السائد ومثقفيه، والوطني اللبناني الأكثر فهما، والعروبي الأكثر تعقلا وإقناعا بين الاتجاهات العروبية اليسارية الجامحة التي أغرقت زمنها الساحة اللبنانية وراء قضية فلسطين، وهو إن قد بدا زمنها ساخطا على توجه الزعامات التقليدية لمجانبتهم الصواب في تقدير حقيقة موقعهم السلطوي الماروني السياسي، بأنه مرتبط بمعادلة معقدة يختلط فيها التاريخ والجغرافيا، / والمحلي بالإقليمي بالدولي/ ولا علاقة لها بالقدرات القووية الذاتية على أرض الواقع، فلم يكن يعني هذا التنكر للمارونية بقدر ما كان يشير إلى قدر لبنان.
* وللاقتراب من مفهومه آنذاك، يجب أن تتوضح لدينا العلاقة في المعادلة السياسية اللبنانية - في أن التماس التاريخي مع العروبة بمفهومها العادل والإطلالة عليها يتجلى قدر المارونية في لبنان، وأن ما يحيط بها من حدود ليس عرضا، فهي في موضع التقاطع والتشابك "التاريخي الجغرافي والثقافي" يلتقي الحاضر مع الجذور، ورحلة الماضي إلى مجد لبنان، ومسيرة بقاء الوجود في استمرار الداخل وتبادل الامتداد، ولم تكن العروبة كتعبير "لصفة إنسانية والانتماء إليها" بغائبة يوما عن لبنان ومسيحييه على مختلف طوائفهم، وهم من أيقظوا فكرتها بين العرب وأعطوا مضمونها، بل كانت بين تياراته، وأن ما قد ظهر أحيانا من تضاد إنما مرده إلى ردود فعل طارئة لطروحات هوجاء رُوج لها خارج التوظيف المأمول، كما أن المارونية تعيش في لبنان، وهي إن بدت كمنظومة متمايزة مؤسسة مع مجموع المسيحيين فيه، إلا أنها كانت دائما على حدود الطوائف الأخرى المشاركة على الأرض ذات الامتداد ومتداخلة معها، وهي في لبنان "أي المارونية" المتعدد الواحد قدَرَه من قمة الأرز إلى البحر ومن الجنوب صعدا إلى الشمال، فلبنان يُرى في تساميه من البعد الأعلى، وهو إطلالة منفتحة على البعد العربي بفعل حتمية التواجد من موقعه/ على سوريا وفلسطين والعراق وشبه جزيرة العرب بأقاليمها المتعددة واليمن حتى المغرب العربي بما فيه مصر.
* وكان العديد من نخب طلاب الجامعات اللبنانية وثانوياتها في تلك المرحلة -لبنانيون وعرب- في أواسط الستينات، حيث لم تكن الطائفية وتنظيماتها قد استفحلت والقوميون العرب بأجوائهم الموضوعية العلمانية المتسامحة على اختلاف طوائفهم سادة الموقف، كان هؤلاء الطلاب قد بدأوا يستشعرون اهتزاز الأرض والطموح منذ انهيار الوحدة السورية المصرية عام/61/ وفقدان الأمل/61-63/ مرورا بعام الهزيمة، وفيما بعد من خلال الشك في سنوات لملمة الجراح وتحرير فلسطين وحلم العودة في ختام 73، كان هؤلاء يتابعون آراء السيد "جان عبيد" في منظوره للخارطة السياسية وتحرك القوى على ضوء منظومة فكره، وكانوا الأقرب إلى خطابه بعد فقدان الثوابت واضطراب الأجواء حول مفهومه للمعادلة الدقيقة بأبعادها السياسة التي يختزنها عقله في مختلف الأمور:
1 – حول الوجه النقي للبنان ومصداقية رسالة المارونية التاريخية الواعية فيه إلى الأبناء داخل البيت وفي المغترب إلى الشعوب الإقليمية المحيطة والعالم، هذه الرسالة التي اختزنتها ونمتها المارونية منذ ترحالاتها الأولى في العمق السوري على خواصر الفرات والعاصي، وكادت أن تندثر مع الجيل القديم - "في عقم المماحكات اليومية ومرض التطلعات وإغراء التحالفات وطمع المصالح والأرزاق وتهور المراهقين وشقلباتهم في معارض الأمية والقوة، بما لا يدركون ولا يملكون ضد أوهام الخوف والرعب ومصادرة ما هو صالح وضار وحق الحديث حفاظا على الطائفة ومشروعية تطاول الصغار على الكبار" - لكن ما هو ثابت في مسار المارونية التاريخية إفضاؤها إلى أن لبنان القديم والحديث لم يكن يوما مناجم ذهب وغابات حور وأنهار لبن وعسل، إنما هو أسوار من جبال شامخة تطل على بحر العالم ومعابر إلى غنى أرض العرب، فلبنان إذن ليس مطمعا كما يعلم العارفين من أهل لبنان، إنما الموقع هو مصدر الخوف والتهديد للعرب، ليس من سكانه ولهم فيه أقارب وأنساب وأحباب، إنما من تآمر الأغراب.
2- حول طبيعة أنشطة الجماعات السياسية وأهدافها وتعدد مناهلها الإيديولوجية (عروبية- يسارية) وطروحات التحرر السياسي والاجتماعي وحراكها المستقطب من الساحة الفلسطينية وعلاقاتها فيما بينها وبين الأنظمة السياسية العربية وحساسية تواجدها على أرض لبنان -ساحة حوار- ويعلم لبنان بأن أحداً من العرب، لم يأت فارغ اليدين إليه فالكل قد حملوا له المٌرِّ واللبان والطيب والذهب.
3- حول موقفه التقويمي لخطأ تحرك الدعوات الانعزالية وبرامج أحزابها لمجانبتها منطوق الواقع الصائر والعصر: فلبنان عائلات منتمية وطوائف مقيمة والفرد فيه ابن العائلة وهو عمادها وعلاقته بها وثيقة‘ فهي احتواء معيشي تربوي ثقافي وأمني، وهو نصرتها ومورد رزقها، هي ملاذه الحصين وحريته اتجاه الغير من الطوائف الأخرى ضمن منطوق الطائفة - فالحرية هنا تعني ضرورة للجماعة الطائفية - ولكل فرد منها الحق في حماية الذات من الاعتداء وفي تأمين مصادر الرزق وحمايتها والتواجد الحر الخ ... لذا فإن حرية الفرد في لبنان بحكم سيرورته الواقعية تعني حرية الطائفة أولا بما فيها ممارساته الديمقراطية دون أن يعني هذا تطابقها مع المفهوم الغربي، فالديمقراطية هنا لا علاقة لها بالمنهج الغربي والفرد في لبنان محكوم بالتعبير - بصيغة المطلب الجمعي - في الدفاع عن الحرية والمساواة والعدل ومقاومة الظلم والفقر "أي ديمقراطية الطوائف" ورغم تطور تمايز الفرد عن العائلة الذي فرضه الاتجاه المعاصر ونزعة الفرد الطبيعية إلى معاكسة الانغلاقات المجتمعية واختراق محرماتها، فإننا في المقابل نلقى إلغاءات عنيفة أو هادئة لهذه الحرية من قبل الطائفة، تعمل على مختلف المدارج، حتى تصل إلى مصادرة حياة الفرد ذاته. ؟
4- عن الآثار السلبية في انتماء الشباب إلى العقائد المنقولة المضغوطة أو العروبية المتطرفة والمخاوف من انجرارهم إلى الالتزام بها، حيث لا أرض لها وعن قصور التصور المغرق في الاعتماد على الدول العظمى والغير لضمان الشأن اللبناني /إذ ليس ذلك سوى انخداع في وهج البريق مقابل ضعف الداخل/ فلم يكن الغير أبدا بالنسبة للبنان عصا غليظة تخيف الغريب وتدافع عنه، ولا سندا صلبا يـُتـَّكـَأ عليه، إنما هو قصبة مستنقعات تكسّرت كما تبين منذ أول اختبار وثقبت جسد لبنان.؟
5- حول لبنان الآتي الدولة والوطن والمواطن والدستور، وصيغة معادلة التقدم مع الحداثة والحرية والعدل الاجتماعي والتاريخ.
وكان السيد جان عبيد بقدر استجابته للحوارات من الأطراف المختلفة وقبوله الهادئ للإيجابيات الحماسية، فهو كان يمرر ملاحظاته ببراعة إلى هذه الأطراف في عبارات مركزة ذات مفاعيل عملية تعيش طويلا.
* من هذا المنظور وليس من غيره يمكن تفسير خطوات اللقاءات والتوجهات الحركية من أجل بناء لبنان الآتي، التي كان يستحثها بحذر المسكون بالشأن اللبناني وهمه، وهذا هو ذاته (الذي كان سببا لمشروع خطفه والإفراج العاجل عنه - إبان الحرب اللبنانية - عقب ثورة الغضب والاستنكار الشعبي الإسلامي والمسيحي وانعكاسه الرسمي والإقليمي حيث وصف خطفه بأنه خطف للبنان)؟
* وفي معرض الرئاسيات والتعريض بعلاقاته: فإن علاقته بآل افرنجية المبكرة في الشمال، لم تكن وليدة تواجد أسروي فقط محكوم بالمنطق الجغرافي، وإنما كانت تربطه صداقة الشباب والحوار والمواقف مع المرحوم الوزير طوني فرنجية - مع الاحترام للأب المغفور له سليمان وزعامته التقليدية،- إذ كان الإبن الشهيد امتداداً لمواقف أبيه، ذات الفهم العميق الموضوعي لطبيعة الوضع اللبناني الداخلي والدولي وأبعاد الارتباط العربي اللبناني،/ كما فهمتها الشهابية في أفقها الواسع فيما سبق/، وانتقلت إلى السيد سليمان الحفيد التي آلت إليه الزعامة، وأيضا طبيعة التقائه بالسيد الحريري ( ليس على متن طائرة قادمة من باريس مربط الخيل والقرار) من أجل الرئاسة كما الزعم، فالسيد الحريري كابن للبنان كان متحمسا لقضايا الوطن العربي معنيا بالشأن اللبناني والبارزين من رجالات لبنان.؟
* وهكذا منذ زمن طويل ، فرغم انسياق الكثيرين وراء بريق التزاحم وإغراء الإيديولوجيات المصنعة في بيروت أساسا والمعادة إليها من عواصم العرب، كان السيد جان عبيد الوجه الآخر والرأي الآخر، فعلى الرغم من استيعابه تماما لزخم الأحداث القومية في الدول المجاورة وتفاعلها في لبنان، كان يقف هو على حدود لبنان ومفهومه عنه، لذا لم يخطو نحو محاولة دمج لبنان (بخصوصيته التاريخية المسيحية المارونية) بالعروبة، وإنما التنبيه فقط إلى قدر لبنان..!؟
* ومن منطلق حساسية المولد والوطن وآفاق الانتماء المتداخل عبر الحدود بين العروبة وخوف الطائفة، وبمعنى آخر من هذا الموقف اللبناني المتنبه إلى عبثية التعصب والانفعال ضد الآخر، كان موقفه موقف الرافض لحرب العشرين عاما على أرض لبنان والوسيط الفاعل لإحلال سلام متوازن بين الأطراف من أجل أن يبقى لبنان، حتى تصالح الطائف، كما يمكن أن نستقي من تحركات السيد /جان عبيد/ أثناء الحرب بين مناطق أرض لبنان ما يسمو من الدلالات، فعندما يكون المقياس الوطن والمفاضلة بين الحياة والدمار، ينتقل الموضوع بين الشرفاء إلى المبادئ والقيم، ويبطل دور الذهب والدولار، وتعاد المساءلة إلى حسابات دقيقة تطال المنطقة والحي والمنزل بمفاهيمها لارتباطها بالوجود والبقاء في زمن القتل على الإشاعة والتصفيات الخفية، فعندما ساد التطرف الطائفي وأصبح الجنون مقياسا في معادلة مقلوبة لمصداقية وطنية هذا الرجل أو ذاك ... كان بقاء الماروني مقيما في المنطقة الغربية عنوانا لوحدة الوطن ورفضا لمقولة الإبادة العرقية الطائفية وارتفاعا في مفهوم المواطنة، وعندما جنحت جميع الأطراف الفاعلة بإيحاء الغير، إلى ممارسة ما هو مرفوض وطنيا وأخلاقيا عبر سلعة الانتقام الطائفي، وأصبح الوجود الماروني مهددا من الخارج تساوقا مع "النمذجة الإسرائيلية" وبفعل التخريب من أحزاب يفترض بها حماية الطائفة، أصبح من الضروري بقاء الرمز متحركا في الوجود المهدد، فإن لبنان الواحد في تكوينه متعدد الوجوه بتعدد طوائفه، وإن إنهاء طرف ينهي لبنان، هكذا يتم التعامل مع حسابات الوطن بما يعنيه من شعب يعيش في الجغرافيا والتاريخ، وليس الانتقال إلى خارج الوطن أيام الكوارث، ومن هذا المنطلق فلقد تجاوز جان عبيد الخوف على سلامة ذاته وعائلته في تلك الفترة "رغم التهديد والمضايقات" فقد تمكن مبكرا من التقاط المعادلةً باتخاذه الموقف الصلب من أجل بقاء الوطن، هكذا أيضا ممن يفترض أنهم أعطوا مجد لبنان، الرموز المقدسة، الساكنة في نسيج شعب الوطن. فالبطريرك الماروني لن يكون مارونيا حقا (وهذه مقولة ثابتة) إن لم يستطع أن يكون بطريركا لكل المسيحيين العرب. والعرب /أي المقام الأول العادل/ وهكذا قياسا على ما في ذلك من حذر/ إذ لم يحمه قديما جناحا الشاهين (مطانيوس) في جونية وتحولاته المعتقدية من المارونية إلى الشيعية إلى البروتستانية، وعلى الشواطئ أساطيل الدول الحامية الطامعة، ولا لاحقا المخالب المميتة والصوت المخيف لطائر بشري الجعجاع،!
* وكما يبدو من دروس هذه المراحل، كان "جان عبيد" الأقدر على التقاط أطراف الخيوط المتشابكة على الأرض اللبنانية للمعضلة (اللبنانية - العربية، واللبنانية – اللبنانية) ولمختلف الفئات السياسية بمن فيهم الفلسطينيين كتعبير ضمني لطائفة ولفصيلها المسلح المعروف لدى الطوائف، الذي أعطى حسب الزعم تبريرات التسلح، فليس هنالك موقف من عدو مفترض، سوى المخرب للوطن.
* وإذا عدنا إلى مرحلة أواخر الستينات ومطلع السبعينات وإلى طبيعة الأجواء المستفزة المشحونة (إقليميا ودوليا، وطائفيا، ودولتيا، وعرقيا) تبرز أهمية موقف السيد جان عبيد وأسباب التطلع إليه، حيث كان من الصعب عندها ضبط النفس أمام حمى الانقياد لسير الأمور بموضوعية وتحليلها بمحاكاة العلمية المخبرية كما فعل، فلقد كان شيعيا وسنيا متفهما لموقف وهواجس الشارع الماروني، والسني العارف للشيعة وللموقف الشيعي اتجاه السنة والعكس، كما كان مارونيا ومسيحيا بالقدر ذاته متفهما للإسلام السني والشيعي والدرزي بتعبيراته الحزبية، كما كان عروبيا متفهما للموقف الرسمي اللبناني والشعبي ولبنانيا متفهما لطبيعة الموقف السياسي العربي، بمعنى آخر كان يرى دائما من منظار الآخر على تعدده.!
* وإذا كان موقع العاصمة اللبنانية بيروت منذ زمن الصناعة المصرفية والسياحة والوكالات، قد أعِدت مسرحا للأطراف المتصارعة في المنطقة، فقد أهله الفهم الصحيح لعمق المجريات، إلى أن يكون مركز استقطاب سياسي، ونافذة للضوء في الأجواء المعتمة على نحو غير مسبوق، وأهلا لمد الجسور عبر ممثلي محاور المصالح والصراع على الساحة اللبنانية بتطاولاتها خارج الحدود، ولربما هذا ما سمح له أيضا بالتحرك الوسيطي بكثير من الوضوح منذ بداياته السياسية مع الأطراف الدولية المعنية وعلاقاتها مع المسألة العربية اللبنانية ومع الفاعليات السياسية والطائفية اللبنانية في مختلف أطرها، وأهَّله لأن يعتمد في زمن الرئيس شارل حلو ممثلا لوساطة مع الحكومة العراقية ومستشارا سياسيا لكل من الرئيسين الياس سركيس وأمين الجميل، وأبا روحيا (عرابا) للرئاسات والمرجعيات اللبنانية المتعاقبة - حتى عهد العماد عون أول التسعينات- لدى من انتهى إليهم صنع القرار العربي والدولي للبنان.
* فكيف يحكم إذن على فِعال الرجال بغير نتائجها، وأن يُسمح لمن شاء ممن امتلك بعض صحاف الورق، أن يدين الشرفاء (باسم الحرية وأثمانها)، من غير أن يُحاسب ويٌحرق في النار، لكن كما يبدو من المجريات حالة شاعت، وهي تتكاثر غالبا في الزمن الرديء، حيث يجزى لأتباعها العطاء، ويتراكض إلى جزائها شِرار الناس، ويتساوى فيها الصالح بالطالح، ويبطل الحق، ويُعطى ما لعلي إلى عمر، وما لعمر إلى شيطان المجوس دون استغراب؟
* فلبنان ملجأ لأقليات استقرت في جباله وسكنت في معارج وِدْيانه، وبما يتوافق مع طبيعة الموقع تمايزت اجتماعا ونشاطا، امتد منذ الفينيقيين، وقصد العالم وعبر مسارها التاريخي احتاجت إلى رجال ورسل، عرفوا خصائص وطبائع ومصالح الشعوب وأصول التعامل لإقامة الصلات بين البلدان والأمصار، وبرعت هذه في هذا الدور الذي جلب لها سلاما وعيشا رغيدا مع الحفاظ على ذاتها اللبنانية، حتى صار لبنان مدرسة علاقات، ونمطا لبنانيا افتخر في ممارسته من اختبروا دور لبنان منذ أيام فخر الدين والبشير إلى عهد الاستقلال.
* والغريب هنا أن تؤخذ "المآخذ" على من برع وأعطى في أحلك الظروف، ونهض بمهمة إنجاح مساعي الوساطات السياسية العربية والدولية، وعقد الاتفاقات للكف عن تدمير لبنان وتهجير شعبه في مهمة اعتبرت من أصعب المهام الوساطية، التي نمّط أصولها (الديبلوماسية) لبنان/ والمقصود هنا (السيد جان عبيد)، لكن هذه مسألة أخرى، تسير على قاعدة إن أخطأ السيد، يُعاقب العبد "وسيد هؤلاء هنا معروف" بما يتضمن هذا الافتراء من مدّ غطاء تبريري لمن قصّر وأحجم من السياسيين اللبنانيين عن واجباته اتجاه شعب الوطن في العقود الأخيرة، هؤلاء الذين درسوا وعرفوا جيداً من منظور الاحتراف السياسي رعب المسيحيين المغذى بخبث مع بداية صعود المد الطائفي المغاير القادم من أواسط القرون (باحتمال فقدان لبنان لحدوده وخصوصيته) وانتشار لغط مفهومه المشوش منذ الخمسينات، فلعبوا على هذا الخوف وبرعوا فيه، بما رافق ذلك من هروع فئات لبنان السكانية إلى التغريب مع احتمال اندثار الموروث في ذاتية لبنان، وقد أدى هذا إلى غمر الشباب بالضياع ورغبة الانخلاع والانقلاع من الجذور، تطاولت مظاهره التقليد المحافظ الماروني والمسيحي لبناني والعربي، تورطت في سديميته على الوجه الأخص القاعدة المسيحية الشعبية والتاريخية (انتقلت فيما بعد عدواها إلى بقية الطوائف)، بينما كانت المارونية السلطوية في القمة تجتمع وتتآلف مع الغير على طاولة التآمر من أجل ابتزاز المزيد ما آل إليه الوضع اللبناني..؟
وربما مارس السيد (جان عبيد) في بدايات الشباب الصحافة، لكن ليس بهذر الكلام المتوج بالأسماء الملمعة أو بقصد تلميعها، إنما انسجاما مع ضرورة وجود المنبر لإسماع صوت محبي العطاء وللارتقاء بالكلام إلى مقولات تستدرك مصائب الأمور قبل أن يسود الانحطاط..؟
لقد كان المتنورون اللبنانيون(ممن خلعوا عباءة الطوائف وأحزابها والأفكار المعلبة في الأقبية)، يتطلعون في سنوات المرارة إلى وجه آخر غير تقليدي، يقودهم في المعارج الصعبة، لم تساهم في تركيبه العقد اللبنانية المتحدرة من زمن الدولة العثمانية ومراحل العثرات وبمعنى آخر وجه يتعالى على تزاحم الأزمات والأوجاع عارفا بجذورها ودروب الخلاص، وينحو إلى التقدم عبر المفهوم اللبناني (في الارتباط العروبي والعدل المجتمعي والرقي الفكري)، منطلقا من الأسس المشتركة الأصيلة التي تنسج اللحمة لدولة لبنانية مأمولة، ترشف من رحيق الجداول بين الجبل والسهل حتى الشاطئ، تتوافق مع تطلع الفرد والعائلة إلى مستقبل، يسترشد بالمنهج العلمي الحديث من أجل الأمان والرخاء.
* وكان هذا التيار المتواضع، الذي رنا بكثير من الشوق والأمل إلى طموحاته، كان يتفاعل مع أزمات الستينات الخارجة من تحاريق لبنان الطائفية في عهد شمعون، ومزالق سياسة الأحلاف، وانتكاسة انفصال الوحدة العربية الأولى والسنوات العجاف، وردود الأفعال الإيجابية والسلبية في نمو التيار العروبي واليساري في الشارع اللبناني المترافق مع انحسار وسكون النوازع الانعزالية المفتقرة إلى وضوح الرؤية والمنهج في الشارع اللبناني، وصراع السياسات العالمية وذيولها الإقليمية على أرض لبنان كبوابة استراتيجية لبلاد النفط العربية وانطلاقة لاختراق الجدار السوري المحيط بالحدود الشرقية والشمالية.
* وكان هذا التيار يخطو للبحث عن من يلعب دورا متفهما رياديا ضمن إطار متماسك لايجابيات مفهوم تآلف المنظومة اللبنانية؛ خارج شوائب الأزمات العاصفة والنزعات الخاوية، التي أدت حيثياتها اليومية إلى انغلاق هذا المفهوم عند حدود الحي والضيعة والسوق والمتجر، والتي أدت فيما أدت إليه على إفراز نوع من القيادات المُرتخية أسقط في يدها، فسيبت تصريف الأمور لزعران الشوارع ومواقف السرفيس والمراهقين والقوادين، الذين رأينا دورهم ودور أبنائهم الجلي وأسماءهم اللامعة على مدى عشرين عاما من الحرب العبثية اللبنانية، وقد رأى هذا التيار الواعي في واقع التعدد اللبناني: /سبيلاً إلى غنى الحوار والارتقاء وتجاوز الذات إلى الآخرين/ وإلى إمكانية فهم المرض الدوري، الذي ينتاب الفئات المختلفة ويجمح بها إلى العنف، وإلى حقيقة غائبة عن قيم الانتماء والتفاعل والاحترام لشعب، كانت تقف دائما على حدود احترام الطوائف، يمكن أن يساهم بإعادتها وتعزيزها منهج تربوي مسئول.
* لذا كان السيد (جان عبيد) كشخصية متميزة بأبعادها: في ذهنية هؤلاء المتنورين اللبنانيين والعرب- وهم من صفوة الشباب – مرشحا رئاسيا مأمولا في عتمة الواقع اللبناني والعربي، وهم لا يرغبون باستبعادهم عن المشاركة المواطنية في مجرى الأحداث بعد الآن، كما لا يرغبون في أن يستعيد زعران الحارات الأميون ولابسوا الجينز والياقات في المناسبات سطوتهم ودورهم في تخريب لبنان، وإن انتظموا في كتل وأحزاب، يمكن أن تتعدد تسمياتها في مسار لبنان..؟
* إن الحرب اللبنانية بعد سنوات الهيمنة والتخريب في الواقع المجتمعي اللبناني وحتى العربي، قد أفرزت عناصرا واعية ليس من السهل إلغاؤها وإن تغيرت المسميات مثلا (المتنورون المحيطون بالعماد عون)، وهي تستعيد على طاولة البحث ما هو أمامها وفي ذاكرتها واقع الستينات وأوائل السبعينات وهرطقات سنوات الحرب عن صوابية قفزات القرود المدربة وإفتاءات القتل والسرقة باسم الصليب أو الهلال، وهي تبحث في الأسباب والنتائج وفي تركيبة البنى الاجتماعية والاقتصادية للبنان في توجه خلاصي عبر ورشة الدراسات الجديدة لترسيخ من وقع عليه الاختيار للنهوض، من هو قديس لبنان رغم سطوة الاحتواء.؟
* لذا فإن من يحاول العودة إلى خطاب تجاوزه الزمان، يرعى الكذب والغش والإدعاء لإعادة العجلة إلى الوراء سيلقى نفسه خارج الزمان والمكان ومهملا في الزوايا، وربما لم يستوعب هؤلاء المرتزقة من الكتبة ومنهم السيد شرارة دروس الأعوام العشرين وما قبلها، أم أنهم يستهينون بالعقول والقدرات، وأن الشعب قد استيقظ وارتقى في سنوات تحصيله إلى ما هو أرقى، ولم يعد يقبل الفساد، فليس من إمكانية للعودة إلى الصفر والدوران لإعادة التجربة والاختبار، فإن لبنان يتجه إلى تراكم معرفي يختزن ويختزل في خاصته من مخلصيه وقديسيه وأنبيائه، ولن تضيع من ذاكرته أسباب الجراح، وهو لا شك يستعيد الآن أسماء هؤلاء الذين تخلّوا أو غرّروا، والذين أوصلوا لبنان إلى الدمار، والذين بقوا زمنا دون وازع أو رقيب، يعتبرون لبنان إرثا استثماريا وأبناءه خرافا تذبح في المواسم وبناته وأطفاله تباع إلى من شاء.
* إن لبنان قد نهض من رقدته وانعتق من قيده، وأزاح عن وجهه الحِجاب، وها هو ينطلق بأعين يقظة فاحصة، يخطو بثبات على الأرض ووجهه إلى الأمام، يرنو بفرح إلى صحيح الطريق الصاعد إلى أرز الرب على القِمم.
سليم نقولا محسن
SOUFANIEH - Damas